الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} وهم اليهود والنصارى {مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ} الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة وهي كلمة الحق. وقيل: هم مبتدعو هذه الأمة، وهم المشبهة والمجبرة والحشوية وأشباههم.{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} نصب بالظرف وهولهم، أو بإضمار اذكر، وقرئ: تبيض وتسود، بكسر حرف المضارعة. وتبياض وتسوادّ، والبياض من النور، والسواد من الظلمة، فمن كان من أهل نور الحق وسم ببياض اللون وإسفاره وإشراقه، وابيضت صحيفته وأشرقت، وسعى النور بين يديه وبيمينه. ومن كان من أهل ظلمة الباطل وسم بسواد اللون وكسوفه وكمده، واسودّت صحيفته وأظلمت، وأحاطت به الظلمة من كل جانب. نعوذ بالله وبسعة رحمته من ظلمات الباطل وأهله {أَكَفَرْتُمْ} فيقال لهم: أكفرتم، والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم.والظاهر أنهم أهل الكتاب. وكفرهم بعد الإيمان تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد اعترافهم به قبل مجيئه.وعن عطاء: تبيض وجوه المهاجرين والأنصار وتسودّ وجوه بنى قريظة والنضير. وقيل هم المرتدون. وقيل أهل البدع والأهواء، وعن أبى أمامة: هم الخوارج، ولما رآهم على درج دمشق دمعت عيناه ثم قال كلاب النار هؤلاء شر قتلى تحت أديم السماء. وخير قتلى تحت أديم السماء: الذين قتلهم هؤلاء، فقال له أبو غالب: أشئ تقوله برأيك، أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة.قال: فما شأنك دمعت عيناك، قال: رحمة لهم، كانوا من أهل الإسلام فكفروا. ثم قرأ هذه الآية، ثم أخذ بيده فقال: إن بأرضك منهم كثيرًا. فأعاذك الله منهم. وقيل هم جميع الكفار لإعراضهم عما أوجبه الإقرار حين أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى فَفِي رَحْمَتِ الله ففي نعمته وهي الثواب المخلد، فإن قلت: كيف موقع قوله هُمْ فِيها خالِدُونَ بعد قوله: {فَفِي رَحْمَتِ الله}؟ قلت: موقع الاستئناف، كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فقيل: هم فيها خالدون لا يظعنون عنها ولا يموتون.
لاتحاد الجملة.لكنه قد يؤتى في الجملة الواحدة بالمظهر قصدًا للتفخيم.والإشارة في قوله: تلك، وتلوين الخطاب في فأمّا الذين اسودّت وجوههم أكفرتم، والتشبيه والتمثيل في تبيض وتسودّ، إذا كان ذلك عبارة عن الطلاقة والكآبة والحذف في مواضع. اهـ.
أَقُولُ: وَلَا يَزَالُ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ شَائِعًا عِنْدَ كُلِّ نَاطِقٍ بِالضَّادِ وَلاسيما وَصْفُ الْكَاذِبِ بِسَوَادِ الْوَجْهِ (فَتَعَجَّبُوا لِسَوَادِ وَجْهِ الْكَاذِبِ) هَذَا هُوَ الرَّاجِحُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وِفَاقًا لِلرَّاغِبِ وَلِأَبِي مُسْلِمٍ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ؛ إِذْ حُمِلَ الْعَذَابُ فِي الْآيَةِ عَلَى عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ جَمِيعًا. وَيَدُلُّ عَلَى مَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا فِي بَحْثِ اسْتِعْمَالِ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ فِي الْمَعَانِي؛ إِذْ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِذِكْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَمَّا مَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا فَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي بَيَانِهِ مَا مِثَالُهُ:أَمَّا الْمُتَّفِقُونَ الَّذِينَ جَمَعُوا عَزَائِمَهُمْ وَإِرَادَتَهُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَةُ أُمَّتِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ، وَاعْتَصَمُوا وَاتَّفَقُوا عَلَى الْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ الَّتِي فِيهَا عِزَّتُهُمْ وَشَرَفُهُمْ، وَأَصْبَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَوْنًا لِلْآخَرِ وَوَلِيًّا لَهُ فَأُولَئِكَ تَبْيَضُّ وُجُوهُهُمْ- أَيْ تَنْبَسِطُ وَتَتَلَأْلَأُ بَهْجَةً وَسُرُورًا- عِنْدَ ظُهُورِ أَثَرِ الِاتِّفَاقِ وَالِاعْتِصَامِ وَنَتَائِجِهِمَا، وَهِيَ السُّلْطَةُ وَالْعِزَّةُ وَالشَّرَفُ وَارْتِفَاعُ الْمَكَانَةِ وَسِعَةُ السُّلْطَانِ. وَهَذَا الْأَثَرُ ظَاهِرٌ فِي الْأُمَمِ الْمُتَّفِقَةِ الْمُتَّحِدَةِ الَّتِي يَتَأَلَّمُ مَجْمُوعُهَا إِذَا أُهِينَ وَاحِدٌ مِنْهَا فِي قُطْرٍ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ بَعِيدٍ أَوْ قَرِيبٍ، وَتُجَيَّشُ جَمِيعُهَا مُطَالِبَةً بِنَصْرِهِ وَالِانْتِقَامِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ ظُلِمَ وَأُهِينَ وَلَا يَصِحُّ عِنْدَهَا أن يكون مِنْهَا ثُمَّ يُظْلَمُ أَوْ يُهَانُ وَتَكُونُ هِيَ رَاضِيَةً نَاعِمَةَ الْبَالِ، أُولَئِكَ الْأَقْوَامُ تَرَى عَلَى وُجُوهِهِمْ لَأْلَاءُ الْعِزَّةِ وَتَأَلُّقُ الْبِشْرِ بِالشَّرَفِ وَالرِّفْعَةِ وَهُوَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِبَيَاضِ الْوَجْهِ، وَأَمَّا الْمُخْتَلِفُونَ لِافْتِرَاقِهِمْ فِي الْمَقَاصِدِ، وَتَبَايُنِهِمْ فِي الْمَذَاهِبِ وَالْمَشَارِبِ، الَّذِينَ لَا يَتَنَاصَرُونَ وَلَا يَتَعَاضَدُونَ وَلَا يَهْتَمُّ أَفْرَادُهُمْ بِالْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي فِيهَا شَرَفُ الْمِلَّةِ وَعِزَّةُ الْأُمَّةِ فَهُمُ الَّذِينَ تَسْوَدُّ وُجُوهُهُمْ بِالذِّلَّةِ وَالْكَآبَةِ يَوْمَ تَظْهَرُ عَاقِبَةُ تَفَرُّقِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ بِقَهْرِ الْأَجْنَبِيِّ لَهُمْ وَنَزْعِهِ السُّلْطَةَ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَالتَّارِيخُ شَاهِدٌ عَلَى صِدْقِ هَذَا الْجَزَاءِ فِي الْمَاضِينَ، وَالْمُشَاهَدَةُ أَصْدَقُ وَأَقْوَى حُجَّةً فِي الْحَاضِرِينَ.{فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} فَيُقَالُ لَهُمْ: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يُقَالُ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلابد أَنْ يُوجَدَ فِي النَّاسِ مَنْ يَقُولُ لِلْأُمَّةِ الَّتِي وَقَعَ لَهَا ذَلِكَ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ، تَغْلِيظًا عَلَيْهَا لِأَنَّ عَمَلَهَا لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنَ الْكَافِرِينَ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَيُوَبِّخُهُمُ اللهُ بِمِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ.وَأَقُولُ: يَجُوزُ أن يكون الْمُرَادُ بَيَانَ الشَّأن لا الْحِكَايَةَ عَنْ قَوْلٍ لِسَانِيٍّ وَقَعَ بِالْفِعْلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ شَأْنَهُمْ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَالَ فِيهِمْ أَوْ لَهُمْ ذَلِكَ الْقَوْلُ، بَلْ هَذَا هُوَ الْمُتَعَيِّنُ عِنْدِي، وَالْكَلَامُ فِي الْأُمَمِ لَا فِي الْأَفْرَادِ، وَالْكَفْرُ فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ لَيْسَ خَاصًّا بِمَا يَعُدُّهُ الْفُقَهَاءُ وَالْمُتَكَلِّمُونَ كُفْرًا كَمَا بَيَّنَّاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ- رَاجِعْ تَفْسِيرَ {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [2: 254] فِي أَوَائِلِ الْجُزْءِ الثَّالِثِ. فَمِنْ عُرْفِهِ أَنَّ الْمُتَفَرِّقِينَ فِي الدِّينِ يُعَدُّونَ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ كَمَا قَالَ: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [30: 31، 32] وَقَالَ- عَزَّ وَجَلَّ- لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [6: 159] فَمَنْ تَذَكَّرَ هَذَا لَا يَتَوَقَّفُ فِي فَهْمِ الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَلَا يُجِيزُ لِنَفْسِهِ صَرْفَهَا عَنْ ظَاهِرِهَا لِأَجْلِ مُطَابَقَةِ عُرْفِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ تَرْجِعُ مَسَائِلُ الْكُفْرِ بَعْدَ الإيمان عِنْدَهُمْ إِلَى جَحْدِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَفِي مَعْنَاهُ كُلُّ مَا اعْتَقَدَ الْمُكَلَّفُ أنه مِنَ الدِّينِ ثُمَّ كَذَّبَهُ، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ يَعُدُّ الْخُرُوجَ مِنْ مَقَاصِدِ الدِّينِ الْحَقِيقِيَّةِ بِالْعَمَلِ مِنَ الْكُفْرِ، وَقَدْ فَهِمَ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ الإيمان اعْتِقَادٌ وَقَوْلٌ وَعَمَلٌ وَلَهُ شُعَبٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَعْظَمِهَا تَحَرِّي الْعَدْلِ وَاجْتِنَابِ الظُّلْمِ (مَثَلًا) فَمَنِ اسْتَرْسَلَ فِي الظُّلْمِ حَتَّى صَارَ صِفَةً لَهُ كَانَ كَافِرًا كَمَا قال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [2: 254] فَإِذَا كَانَ الظَّالِمُونَ كَافِرِينَ فِي عُرْفِهِ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ الْمُتَفَرِّقُونَ الْمُخْتَلِفُونَ كَافِرِينَ، وَالِاعْتِصَامُ بِالْوَحْدَةِ وَتَرْكُ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ مِنْ أَعْظَمِ شُعَبِهِ، بَلْ ذَلِكَ هُوَ أَسَاسُهُ الَّذِي لَا يَثْبُتُ بِنَاؤُهُ إِلَّا عَلَيْهِ؛ وَلِذَلِكَ وَرَدَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا عَقِبَ قوله: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فَإِنَّ مَا قَرَّرْتُهُ مِنْ وُجُوبِ الِاعْتِصَامِ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّفَرُّقِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَإِنَاطَةِ الدَّعْوَةِ وَالأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ بِأُمَّةٍ قَوِيَّةٍ مُتَّحِدَةٍ هُوَ بَيَانُ السَّبِيلِ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْنَا سُلُوكُهَا لِنَمُوتَ مُسْلِمِينَ.
|